Повесть «Победитель» на арабском языке. Перевод Лена Шаабан

 

 

 

المنتصر

رواية قصيرة

 

  

مهدى للهيرومونك ميخائيل (تشيبل)

 

 

ماترونا

على الرّغم من أن ماترونا كانت فتاة صغيرة، لكنّها لم تحتمل مناداتها بـ»ماتريونا» على الطريقة الروسية، وكانت تصححه دائما. فقد تُرجِم اسمها من اللاتينية بـ «السيّدة»، وفي روما كانت نساء الطبقة الرّاقية تدعى «ماترونات»، أمّا «ماتريونا» فهو اِسم يذكِّرنا بدمى الماتريوشكا، فلماذا تحتمل فتاة جادّة تعمل لدى أسرة كونت مثل هذا النداء لنفسها؟

كانَ والدا ماترونا أقنانا، أمّاهي فقد وُلدت عام 1869، عندما كان قد انتهى نظام القنانة بالفعل منذ 8 سنوات، ولكن آثاره كانت لا تزال حية. أما بالنّسبة لِماترونا فلم يكن لديها أي شيء سيء لتقوله عن أصحاب المنزل، لقد كانوا أناسا طيّبين. عاشت في غرفة منفصلة في قصرهم الجميل في مدينَةِ سانت بطرسبرغ، وكانت ترعى أطفالهم الثلاثة.

كانت الكونتيسة تحبّها. فكانَ يحدث أن تشتري فستانا لنفسها، وترتديه لمرة واحدة، «لا يعجبها»، فتعطيه لمربية أطفالها. ولكن أحقا لم يعجبها، أم أنها ذريعة لمنح الفتاة هدية — من يدري؟! كانتا في نفس العمر تقريبا، وكانت ربّة المنزل تخاطب الخادمة كما لو كانتا من نفس المستوى، والفرق الوحيد هو أن الكونتيسة كانت تخاطب ماترونا من دون ألقاب، على عكس ما كانت تفعله ماترونا.

كان قصر عائلة الكونت كبيرا، فيه العديد من الغرف والقاعات لاستقبال الضيوف. كما كانت تقام فيه حفلات البَلّ الرّاقصة. سمعت الكونتيسة ذات مرة ماترونا وهي تقصّ حكاية سندريلا لأطفالها، وأصرت على أن تذهب المربية إلى إحدى تلك الحفلات الرّاقصة، وقالت مبتسمة: «ستقابلين أميرك هناك». لكن ماترونا لم يعجبها الذّهاب إلى الحفل الرّاقص؛ فلم يكن هذا يناسبها، لقد أرادت لنفسها حياة مختلفة.

وكانت في وقت فراغها، تتمشّى في شارع نيفسكي بروسبكت، أحيانا إلى دير القدّيس ألكسندر نيفسكي، وأحيانا أخرى إلى كاتدرائية كازان. في معابد العاصمة المهيبةِ، وبينما كانت الفتاة تستمع إلى الغناء الجميل لجوقات الكنيسة، كانت تصلي لكي يرتب لها الرب بنفسه حياتها كما ينبغي أن تكون؛ فهي تحب العيش في العاصمة، ولكنها مستعدة للعيش في القرية أيضا إذا لزم الأمر.

كانت قد بلغت من العمر ثلاثين ونيّف، ولم يكن لديها أسرة. على الرغم من أنها كانت تعتبر أطفال الكونت مثل أطفالها، لكن في أعماقها لم تخمد رغبتها في إنجاب أطفال من صلبها.

«ألا يمكن أن يكون لدي سعادتي الأسريّة الخاصّة؟» سألت ماترونا الكونتيسة ذات مرة؛ فقد سُمح لها بطرح أي أسئلة. «ولكن أين ستجدينها ،إن كنت تمضين وقتك مع الأطفال فقط، أو في المعبد، وإلى الحفل الرّاقص لم تذهبي سوى مرة واحدة في حياتك، ووقتها بقيتي مستندة على الحائط؟ -ابتسمت ربّة المنزل بخبث وقالت — عليك أن تبحثي عن سعادتك.»

لكن اتضح أن ماترونا لم تكن بحاجة للبحث عن أي شيء. في كاتدرائية كازان، لاحظت وجود رجل قلما كان يأتي إلى الخدمة — ربما مرة واحدة في الشهر- لكنه نظر إليها بطريقة تجعل من المستحيل ببساطة عدم الالتفات إليه. عندما لمحته ينظر إليها مرة أخرى، اتجه نحوها فجأة. اتضح أن هذا الرجل رآها بالصدفة، وهي تدخل كاتدرائية كازان، ثم جاء بعد ذلك إلى سانت بطرسبرغ سبع مرات خصّيصًا ليرى هذه الفتاة الغريبة، على الرغم من أن المسافة التي كان يقطعها كانت بعيدة. ولكنه كان ما يزال مترددا في التحدث معها؛ فماذا لو قالت أنّها متزوجة أو أنه لا يعجبها، وهو كان يعيش على هذا الأمل.

انسجمت ماترونا معه على الفور بطريقة ما، وكانت أمورها تسير معه بسلاسة. فقد جاء بعدها عدة مرات، ثم طلب الزواج منها.

لم تحتج ماترونا إلى أي شيءعندما كانت في منزل الكونت. ولكنّ موقف أصحاب المنزل تجاهها تجلى بشكل أوضح عندما أرادت الزواج.

كانت بالفعل أكثر من مجرد شخص بالغ، خاصة في ذلك الوقت: عملت لمدة 16 عاما لدى عائلة نبيلة ترعى أطفالهم. كان بإمكانهم إخبارها – «حسنا، اذهبي واختبري ماهية الحياة المستقلة بنفسك إن كانت فعلا سلسة». ولكنّهم كانوا قد جمعوا لها مهرا تحسد عليه أي شابة أخرى: الأواني الفضية، الفساتين، شالات الفراء، الأوشحة المخرمة، السماور، أغطية السرير. وأيضا- صندوق مليء بالمجوهرات الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة، وحتّى أنّهم أعطوها مالا لِشراء منزل.

كان ميخائيل زوج ماترونا من بولوغوي. والتي تبعد عن مدينة سان بطرسبورغ- إذا كان الطريق مباشرا- بما يزيد قليلا عن 300 كيلومتر، ولكن هل توجد طرق مباشرة حقا؟ ولذلك فهي تبعد تقريبا 400 كيلو متر. وإلى هناك انتقل الزوجان. وقاموا بشراء منزل، بالمال الذي تبرعت به عائلة الكونت. وبمرور الوقت، بنى ميخائيل منزلا آخر قريبا- لم يكن يريد أن تعتقد ماترونا أنه تزوجها بسبب المهر، وأنه غير قادرعلى بناء منزل لزوجته وأطفاله. وما يزال كلا المنزلان قائمان، حتى الآن، ويعيش فيهما أقاربهما. وكان لدى ميخائيل وماترونا بالإضافة إلى المنزلين، مزرعة كبيرة فيها أكثر من عشرة خيول وخمس عشرة بقرة وأغنام ودواجن ومراعي وأرض صالحة للزراعة. كما أنهما استأجرا عُمالا – إذ هَل يمكنهما التعامل مع هذا الكم من العمل بأنفسهما؟

أنجب الزوجان أطفالا، هم ألكساندرا وماريا وإيفان. لكن لا يمكن للحياة أن تكون دوما صافية؛ فقد أظهرت وجهها الآخر لميخائيل وماترونا وأطفالهما.

ميخائيل

 

لم تكن حياة ميخائيل قبل الزّواج من ماترونا سهلة، فحتى عامه الأربعين كان قد عانى الكثير، وقابل مختلف الأشخاص، وعمل في وظائف مختلفة، ولم تكن حياته الشخصية مستقرة، ولم تكن لديه ثروة. ببساطة  قبل لقائه بماترونا، لم ينهمر عليه النعيم من السماء. ولكن بعد هذا اللقاء حصل كل شيء في آن واحد، زوجة محبوبة ومهر يعتبره ضخما. وكان قد توقف بالفعل على الحلم بأن يكون لديه أطفال، لكن الآن أصبح لديه ثلاثة. «لا يمكن أن يكون كل شيء جَيّدا هكذا دائما»- هكذا تبادر إلى ذهن الرّجل.

اقترب ميخائيل في إحدى المرات من ماترونا وقال: «كنت أتساءل إلى متى ستستمر حياتنا تسير بهذه السلاسة؟» عادة ما يستهجن الرجال النساء اللواتي يطرحن مثل هذه الأسئلة، ولكن هذه المرة زوجته تستهجن سؤاله قائلة: «حسنا، ما هذه الترهات التي تختلقها؟ أليسَ لديك أعمال أخرى تقوم بها؟»

وبدأ يقرأ لها أيضا من الكتاب المقدس، بداية سفر أيوب: «كان هناك رجل في أرض عوص، اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملا ومستقيما، يتقي الله ويحيد عن الشر. وولد له سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمس مئة فدان بقر، وخمس مئة أتان، وخدمه كثيرين جدا. فكان هذا الرجل أعظم كل بني المشرق.

وكان بنوه يذهبون ويعملون وليمة في بيت كل واحد منهم في يومه، ويرسلون ويستدعون أخواتهم الثلاث ليأكلن ويشربن معهم. وكان لما دارت أيام الوليمة، أن أيوب أرسل فقدسهم، وبكر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم [وعجل واحد لخطيئة أرواحهم]، لأن أيوب قال: ربما أخطأ بني وجدفوا على الله في قلوبهم. هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام. وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم. وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم.(هاد كلو من الإنجيل؟)

فقال الرب للشيطان: من أين جئت ؟. فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض، ومن التمشي فيها. فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر. فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجانا يتقي أيوب الله. أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية ؟ باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف عليك.»

«حسنا، أين وجدت سبعة آلاف رأس من الماشية الصغيرة، أو على الأقل جملا واحدا؟» — قاطعته زوجته. «توقف عن التوهم، واشغل نفسك بأي شيء.»

ذهب مخائيل، لكن قلبه كان مضطربا. والحقيقة أن الثورة و الحرب الأهلية كانتا قريبتين، وقد خسروا جزءا من ممتلكاتهم. بينما بقي جزء آخر، الخيول والأبقار بمعجزة ما لم يقعوا تحت استئصال الكولاك. كما احتفظت ماترونا بصندوق المجوهرات، وتمكنت من إخفائه عن أعين المتطفلين.

كانا قلقين للغاية عندما بدأ إغلاق المعابد. بعد ذلك، توقفا عن الحديث عن الإيمان بصوت عال، ولم يخبرا أطفالهما، الذين لم يكبروا متديّنين.

ووقعت أكبر الاختبارات على أسرتهم خلال الحرب الوطنية العظمى.

 

الأطفال يكبرون

مر الوقت، وكبر الأطفال. ألكسندرا تزوجت من طيار في البحرية وذهبت معه للعيش في بلدة ييسك الساحلية في إقليم كراسنودار.

انتقل إيفان وماريا إلى سانت بطرسبرغ، التي أصبحت تسميتها لينينغراد، المدينة التي عاشت فيها والدتهما في يوم من الأيام حياة جيّدة. ظنّا أنهما سيجدان سعادتهما هناك.

توفيت زوجة إيفان الأولى في وقت مبكر، بسبب إصابتها بسرطان المعدة. تزوج للمرة الثانية، وكان اسم زوجته إفروسينيا، هي امرأة طيّبة، وقوية الإرادة، ومجتهدة. أنجبا طفلا أسمياه ميخائيل.

كان زواج ماريا الأول قصير الأجل أيضا. خدم زوجها بيتر- الذي تزوجت منه في كاتدرائية القديس نيكولاس البحرية في كرونشتاد- في كرونشتاد على متن غواصة. مات قبل بداية الحرب العالمية الثانية. كانت ماريا في ذلك الوقت تنتظر منه طفلا. كانت ألمانيا النازية تستعد بالفعل للحرب مع الاتحاد السوفيتي. تم حظر الممرات في بحر البلطيق، وزُرعت الألغام البحريّة ذات المسامير. بأحد هذه الألغام تم تفجير الغواصة التي خدم فيها بيتر. ابنه الذي ولد في مستشفى الولادة في نيفسكي بروسبكت في لينينغراد، رأى والده فقط في الصورة….

 

الحرب

 

استمر احتلال الغزاة النازيين لمقاطعة لينينغراد من أغسطس 1941 حتى منتصف عام 1944. كانت بعض البلدات (على سبيل المثال، تيخفين) تحت الاحتلال لبضعة أشهر، وكانت مناطق أخرى (المناطق المتاخمة للينينغراد) أقل حظا بكثير. انخفض عدد سكان مقاطعة لينينغراد  خلال سنوات الحرب، بنحو ثلاث مرات… استمر الحصار العسكري على لينينغراد 872 يوما، وأصبح أحد أكثر الصفحات مأساوية في تاريخ الحرب العالمية الثانية، والتي أظهرت قسوة الغزاة وشجاعة المواطنين السوفييت.

فشل النازيون في اقتحام منطقة مرتفعات فالداي ومدينة بولوغوي ولم يتم احتلال المنطقة. ومع ذلك، تم تجهيز فصائل مقاومة (بارتيزان) في المدينة من فرق وكتيبة مقاتلة، وتم إنشاء جماعات سريّة. تم ضم أكثر من 130 شخصا للبارتيزان حيث تم تجهيز فصيلين من هذا العدد. وتم إرسال العديد من أولئك الذين تم تجنيدهم في هذين الفصيلَين في نهاية عام 1941 وبداية عام 1942 خلف خطوط العدو وفصائل البارتيزان الموجودة خاضوا معركة نشطة.

على الرغم من أنّ ميخائيل  كان كبيرا في السن، ولكنّه انضم أيضا إلى البارتيزان. لم تكن الظروف المعيشية مناسبة لعمره وصحته؛ مخبأ غير مدفأ في الغابة، ونقص في الأدوية. لقد أصيب بالتهاب رئوي، فبدون المضادات الحيوية لا يستطيع الجسم بنفسه الشفاء منه. مات ميخائيل ودفن هناك في الغابة.

دُمّرت شقة ماريا، أثناء قصف الطائرات النازية لينينغراد. اضطُّرت هي وابنها للذهاب إلى والديها في بولوغوي. أدركت لاحقا أن خسارة الشقة ربما أنقذت حياتها وحياة ابنها. تبلغ مسافة الطريق إلى بولوغوي أقل من 400 كيلومتر، ولكن سفرهما استغرق أسبوعين تقريبا؛ إذ كان القطار يغير مساره باستمرار بسبب التفجيرات.

عندما وصلت إلى منزل والديها، رأت أنهما أعطيا الخيول والأبقار للبارتيزان، ووالدها أيضا انضم إلى البارتيزان.

في غضون ذلك، كان العدو يقترب من بولوغوي. قرروا إجلاء الأم الشابة وطفلها إلى جبال الأورال، حيث كان الاتحاد السوفيتي قد أطلق الإنتاج العسكري. ذهبت ماريا والطفل إلى تشيليابينسك بإحدى السيارات التي كانت تنقل آلات المصانع العسكرية. أثناء وداعها، وضعت ماترونا حفنة من المجوهرات من صندوق المجوهرات في حفاضات حفيدها، وقبلت ابنتها وحفيدها…

كان الاتحاد السوفيتي يستعد للحرب منذ أواخر الثلاثينيات. عندما تم التوقيع على اتفاقية مولوتوف — ريبنتروب للسلام لمدة عشر سنوات، أدركت القيادة السوفيتية أن ألمانيا ستنتهك السلام قبل ذلك بكثير. فافترضوا أن يحدث ذلك بعد خمس سنوات، ولكنّه حدث بعد عامين. إلّا أنّه حتى في هذين العامين كانت الاستعدادات للحرب مستمرة: تضاعف حجم الجيش القائم مرتين تقريبا، وخضع حوالي 14 مليون شخص لتدريب عسكري أولي من خلال منظمة أوسوأفياخيم «OSSOAWIACHIM»، وهي جمعية النهوض بالدفاع وصناعة الطيران والصناعات الكيميائية.

بدأوا في نشر الإنتاج العسكري خارج جبال الأورال. لكن لم يكن لديهم الوقت للاستعداد الكامل للحرب، ولهذا كانت سنواتها الأولى صعبة للغاية على الشعب السوفيتي.

من الصعب الآن على الأشخاص المرفهين بوسائل الراحة الحديثة أن يتخيلوا كيف كان الحال بالنسبة لأم مع طفلها الصغير على الطريق. كانت تغسل الحفاضات القليلة التي كانت لديها أثناء التوقف عند البرك والأنهار بدون صابون، وكانت تجففها على جسدها مباشرة…

بدأ المصنع العسكري- الذي أُحضرت ماريا للمشاركة في بناءه — العمل في حقل شبه فارغ تحت السماء المفتوحة. وبدأ بالفعل إنتاج مدافع رشاشة للجبهة، قبل وقت طويل من توفر الظروف المعيشية المواتية للعمل فيه.

قيل لماريا: «ستكونين طاهية». لقد قطعوا سقيفة، وبنوا موقدا من الحجارة، وقدموا موقدا قديما للمساعدة. وكان عليها أن تطبخ طعاما ساخنا للعمال. نشأ الابن على الأحطاب بجوار الموقد.

كان الطعام عبارة عن عصيدة سائلة على شكل حساء، وكانت الكميّة غير كافية أبدا. كانت ماريا تعمل بضمير، وكانت محرجة من استهلاك ما يصلح للأكل في المطبخ، ونتيجة لذلك، كانت هي وابنها جائعين باستمرار. قامت ماريا باستبدال جميع المجوهرات التي أعطتها إياها والدتها بمنتجات من السوق. مقابل سوار ذهبي مرصع بالزمرد والألماس أعطوها كيلوغرامين من الدخن ورغيف ونصف من الخبز الأسود…

لكن ماريا لم تستسلم، ونجت هي وابنها.

 

تانيا

 

كانت رائحة الموت تفوح بالمكان، حرب وحياة شحيحة على الرمق الأخير، مصاعب وآلام، ولكن الناس يعتاودن في النهاية على تلك الظروف، ويبدأون في التفكير فيما كان يشغلهم في وقت السلم. قابلت ماريا رجلا يدعى ليونيد في تشيليابينسك. شارك ليونيد في بداية الحرب، في الدفاع عن موسكو، ثم أعطوه تحفظا عن الخدمة وأرسلوه ليعمل ميكانيكيا رئيسيا في مصنع تشيليابينسك للأسلحة. ماتت زوجة ليونيد وترك في موسكو ابنته البالغة من العمر اثني عشر عاما، في رعاية أخته وأخت زوجته المتوفاة، لقد أيقن أن بقاء الفتاة معهما في العاصمة سيكون أفضل لها من ذهابها معه إلى جبال الأورال.

كان ليونيد يعاني من آلام شديدة في المعدة بسبب التوتّر العصبي، وكان شاحبا ونحيفا دوماً. لكن هذا لم يمنعه من الالتفات إلى ماريا. في المرّة الأولى اقترب منها وتحدث إليها، في المرّة الثانية بدأا بالمواعدة وبعد فترة تزوجا. أنجبا طفلة، سميت نيللي- تماما كاسم ابنة ليونيد من زواجه الأول. كانت ماريا هي التي أصرت على ذلك.

أجبره الوضع خلال الحرب، على الصمود، ولكن بعد ذلك خف التوتر قليلا، وتفاقمت القرحة الهضمية لدى ليونيد. كان هناك خطر حدوث ثقب في جدار المعدة. في الوحدة الطبية، كان هناك جراح ألماني قد تم أسره، فحص ليونيد وقال:

«يمكنني إجراء الجراحة لك. لكن بعد ذلك لن تعيش أكثر من خمس سنوات. من الأفضل لك أن تذهب إلى أوزبكستان، حيث يوجد في جبال بامير طب جبلي وعسل جبلي وأعشاب. سوف تشفى من القرحة، وسوف تعيش طويلا وتموت ميتة طبيعية».

لم يرغب ليونيد في الذهاب إلى جبال بامير، لكن ماريا لم تكن تريد أن يموت زوجها الثاني أيضا. عندما وصلوا إلى سمرقند، حملوه على نقالة؛ فلم يعد بإمكانه المشي بينما سارت إلى جانبه ماريا مع طفليها.

استأجرت ماريا شقة. جاءت إليهم امرأة أوزبكية ذات ضفائر رفيعة سوداء وعيون متلألئة من قرية جبلية. أحضرت هذه المرأة للمريض الدواء الذي تحدث عنه الطبيب الألماني الأسير. وتحسن المريض، ليس على الفور، لكنه تعافى وبدأ العمل مرة أخرى.

عمل في البداية في مقلع للرخام، ثم في مصنع للتبغ. لم يعد يشعر بالعجز، وكانت ماريا سعيدة لأنها تمكنت من إنقاذ زوجها.

أنجبا طفلين آخرين. أصغرهما كان اسمها تانيا. نجت هذه الفتاة ذات العينين الخضراوين الكبيرتين بأعجوبة.

كان هناك عدد غير قليل من الناس في سمرقند ممن يكرهون الحكومة السوفيتية وكل من هو روسي. هُزمت الحركة البسمشية في الثلاثينيات، خلال سنوات الحرب الوطنية العظمى، وحاولت النهوض مجددا، ولكنها هُزمت مرة أخرى. ومع ذلك، استمرت المقاومة السرية بأحداث وظروف مأساوية، دون أن تتخذ طابعا جماعيا.

في مستشفى التوليد بسمرقند كانت تعمل امرأة أوزبكية مسنة، أولماخون أزاماسوفنا، طبيبة نسائية. أولماخون تعني الجمال، والأزاماس تعني الشخص القوي. كان من الصعب تحديد ما إذا كانت أولماخون أزاماسوفنا جميلة- كانت بالفعل قد تجاوزت الخمسين من عمرها، لكنها صبغت شعرها باللون الأبيض، ولونت عينيها وحاجبيها وشفتيها، بحيث يعتقد المرء أنّها امرأة أوروبية. هي هادئة ورصينة لا تتفوه بالكثير من الكلام. وكان والدها أحد الممثلين البارزين للبسمشية، والذي أعدم بحكم من المحكمة السوفيتية.

تعهدت أولماخون بعد ذلك بالانتقام لوالدها. وأثناء عملها في مستشفى التوليد، قامت بصب محلول قوي من المنغنيز في معدات الأطفال الروس حديثي الولادة باستخدام وابل. وبعد قليل من الوقت تقوم بامتصاصه حتى لا يكون هناك أثر. كان المنغنيز يحرق معدة الطفل حديث الولادة ويقبضها بشدة. وبسبب الحرق، لا يمكن هضم الطعام، يبدأ الطفل بالتقيّؤ على الفور بعد الرضاعة. أجرت أولماخون مثل هذه العملية على 98 طفلاً روسيًا. نجا اثنان منهم، إحداهما كانت تانيا.

ومن خلال هذين الطّفلين الناجيين، تم التعرف على الطبيبة القاتلة ومحاكمتها والحكم عليها بالإعدام. لكن لا يمكن إعادة الأطفال من الموت. وعانت تانيا طوال حياتها من عواقب التسمم. لكن الرب أعطاها حياة مديدة.

  

الانتقال

عاش ليونيد في سمرقند مع ماريا والأطفال لمدة أربعة عشر عاما. عاشوا في هذه المدينة الكثير من اللحظات المشرقة والصعبة.

قاموا ببناء منزل متين، وكانت هناك حديقة في الفناء، والكثير من الكروم. أطلّ المنزل بأحد جوانبه على برج مياه لمصنع قطن. وإذا تحرك المرء قليلا إلى الجانب الآخر، فهناك يقع الطريق على منحدر شديد الانحدار، يتدفق تحته نهر زروفشان الجبلي المتدفق. تم بناء جسر معلق فوقه، وبعده تبدأ الجبال.

بدأت الحياة تتحسن نوعا ما. ولكن ابن ماريا من زواجها الأوّل بدأ يمرض. بينما كان قد حان وقت بلوغه، وإثر ذلك تدهورت حالته الصحية بشكل حاد، وأصبح يفقد وعيه كثيرا.

قال الأطباء إنه يجب تغيير المناخ، وإلا فقد يموت الصبي، ومن الأفضل الانتقال إلى البحر.

كان من الصعب بعد سنوات عديدة تغيير المكان الذي ترتبط به الكثير من الذكريات، حيث وُلد الطفلان. لكن ليونيد تذكر كيف انتقلت ماريا إلى هذا المكان لإنقاذه من الموت. والآن كان من الضروري إنقاذ ابنها، الذي أصبح يعتبره ابنه بعد هذه السنوات.

ذهبوا إلى إقليم كراسنودار. استغرق الطريق ما يقرب من شهر؛ حيث كانت القطارات بطيئة للغاية. ولكن لكل شيء  نهاية، وهذا الطريق قد انتهى أيضا. وصلوا إلى بلدة ييسك الساحلية، حيث تعيش ألكسندرا، أخت ماريا الكبرى.

  

 

بلدة ييسك

تقع مدينة ييسك الحديثة في الطرف الشمالي الشرقي من شبه جزيرة ييسك، وهو مكان يعيش فيه الناس منذ آلاف السنين.

يعتبر 19 أغسطس (31 أغسطس وفقا للأسلوب الجديد) عام 1848 يوم تأسيس مدينة ييسك. مؤسس مدينة ييسك، الأمير ميخائيل سيمينوفيتش فورونتسوف، هو الحاكم العام لنوفوروسيسك، والقائد العام لفيلق قوقازي منفصل، وحاكم منطقة القوقاز، ومشير عام.

أثبت بقيادته لإقليم نوفوروسيسك الشاسع، أنه مدير موهوب أيضا. بناء على تعليماته، تطورت أوديسا، وتم إنشاء الطرق في شبه جزيرة القرم. بعد الحصول على موافقة الإمبراطور نيكولاس الأول على تأسيس ييسك، اهتم فورونتسوف بتطويرها حتى أيامه الأخيرة. في ذلك العام، وصل العديد من المهاجرين من جميع أنحاء روسيا إلى ييسك، التي تم بناؤها بأياديهم. كانوا في الغالب أشخاصا من روسيا العظمى وروسيا الصغرى.

كان هناك فلاحون وتجار من مقاطعات ستافروبول ويكاترينوسلاف وسكان فورونيج وكورسك، وأشخاص من بيرديانسك وتاغانروغ وماريوبول. يمكن كتابة أساطير حول شجاعة هؤلاء الأشخاص، الذين وصلوا عمليا إلى السهوب، بعد أن غسلتهم أمواج البحر من الجانبين. لكن المناخ، والمأكولات البحرية الغنية الوفيرة، والسهول الخصبة، ساعدت المستوطنين في وقت قصير على الشعور بالاستقرار وتحسين أسلوب حياتهم.

 منذ الأيام الأولى من حياة سكان مدينة ييسك، انتشر البرجوازيون والحرفيون والتجار. ومع ذلك، فإن معظم السكان حتى وقت التنظيم الجماعي، كانوا يعملون في الزراعة. كان لدى العديد من سكان المدن قطع أراضي منزلية كبيرة وماشية ودواجن وحدائق وبساتين. لعب الميناء البحري العامل والآخذ بالتّطور دورا كبيرا، تم تصدير الحبوب من ميناء ييسك إلى إيطاليا وإنجلترا وتركيا واليونان.

بحلول منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، نما تداول البضائع في الميناء إلى 5 ملايين روبل ذهبي، وبحلول بداية القرن العشرين، تم تصدير أكثر من 4 ملايين طن من البضائع المختلفة، وخاصة القمح، عبر ميناء ييسك سنويا. في عام 1849، تمت الموافقة على أول خطة رئيسية لتوسيع المدينة، حيث سمّي الشارع الرئيسي للمدينة «تشيرنومورسكايا» على اسم قوات البحر الأسود (شارع لينينا الحديث). تضمن المشروع منظورا عموديا لـ 22  شارعا من شوارع المدينة، والعديد من الساحات، بالإضافة إلى شارع مركزي.

بين عامي 1854-1856 أقيم مركز تسوق على امتداد محيط ساحة السوق واختلفت واجهات المبنى في التزيينات الزخرفية. في 15 ديسمبر 1849، افتتح فيسينكو، أول ناظر محطة في مدينة ييسك، مكتب بريد به طاقم عمل مكون من 4 أشخاص. في 10 أكتوبر 1849 افتتحت أول كنيسة في ييسك باسم شفاعة مريم العذراء المقدسة، وهي مصنوعة من أخشاب القوارب، وفي 25 ديسمبر من نفس العام، أقيم فيها القدّاس الأوّل.

بحلول بداية القرن العشرين، تحولت ييسك إلى مركز رئيسي للتجارة الدولية وأصبحت المركز الثقافي لجنوب روسيا. في عام 1904، بمبادرة من سلطات المدينة، تمت إعادة بناء الميناء، وفي عام 1911، افتتحت الشركة المساهمة لسكة حديد ييسك، التي تم إنشاؤها بمبادرة من رئيس البلدية ف.ف. نيناشيف، خط سكة حديد.

بحلول عام 1912 بلغ عدد سكان المدينة 50 ألف نسمة. منذ عام 1905، أقيم في المدينة جمعية محبي الفنون الجميلة، التي تنظم الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية.

خلال الحرب العالمية الأولى، تم إجلاء البولنديين إلى المدينة، وكان معسكر أسرى الحرب النمساويين موجودا هنا أيضا. بدأت أهمية ييسك كميناء دولي تأخذ في الانخفاض. من خلاله كانت تذهب الإمدادات لخطوط الجيش الخلفية. بعد ثورة أكتوبر عام 1917، تغيرت السلطة في ييسك ست مرات. وكانت هناك مواجهة بين «الجيش الأبيض» و «الجيش الأحمر»، في شبه جزيرة ييسك. كانت مدينة ييسك رمزا للجيش الأحمر. وقفت قرى القوزاق في شبه جزيرة ييسك إلى جانب الجيش الأبيض.

في 2 فبراير 1918، تم تأسيس السلطة السوفيتية في ييسك لأول مرة، ولكن ليس لفترة طويلة. استعاد السوفييت السيطرة على ييسك في 28 مارس 1918.

في الوقت الذي جاءت فيه ماريا وزوجها للعيش فيها لأول مرة، كانت ييسك قد أصبحت مدينة سوفيتية بالكامل، كما بدا في ذلك الوقت، ناسية تاريخها إلى الأبد.

إيفان

 

لم تكن الكسندرا الابنة الكبرى لماترونا في عجلة من أمرها للزواج. تزوجت في سن الثلاثين. زوجها إيفان، طيار في القوات البحرية، كان رجلا طويلا وحسن البنية، وكان يعجبها كثيرا. كانت تشعر بالأمان بجانبه، يروق لها أن تشعر بالقوة والثقة التي تنبعث منه. رُزقا بابنة سمّياها كاتيا. حصلت الأسرة الشابة على شقة في ييسك. لكن السعادة لم تدم طويلا. مات إيفان قبل وقت قصير من بدء الحرب الوطنية العظمى أثناء اختبار الطائرات.

تم اختبار الطائرات وتصميمها من قبل مصمم الطائرات الشهير روبرت بارتيني في مدينة ييسك. جاء روبرت لودفيغوفيتش بارتيني لأول مرة إلى بحر آزوف في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وكان مسؤولا عن الاستعدادات لرحلة طائرة توبوليف «طائرة بلد السوفييت» إلى الولايات المتحدة، والتي جرت في مطارات ييسك وتاغانروغ.

في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، كانت هناك حاجة إلى طائرة خاصة للقطب الشمالي. وقتها أصبح الاتحاد السوفيتي متمكّن في القطب الشمالي. ففي عام 1933، أنشأوا الإدارة الرئيسية لطريق بحر الشمال — وهي منظمة مُنحت حقوق الوزارة وقامت بإجراء البحث العلمي في القطب الشمالي بالإضافة إلى مساهتمها في التنمية الاقتصادية لمناطق أقصى الشمال.

ولذلك احتاجت المنظمة إلى طائرة متعددة الأغراض قادرة على الإقلاع والهبوط على الأرض والمياه والثلج والجليد، وإجراء استطلاع بعيد المدى للجليد، ونقل البضائع إلى القرى والأكواخ الشّتويّة. كان أول المبادرين في إنشائها هو الطيار القطبي تشوخنوفسكي ب.غ، الذي تم تكليفه بإعداد الشروط المرجعية لكشاف القطب الشمالي الأقصى (في) (DAR)، أما بارتيني ر.ل. فقد عمل على تطوير المشروع.

في عام 1935، في مياه مدينة ييسك، اختبروا «DAR»، ورفعوها ووضعوها على الجليد. استخدموا المطارات في ييسك و تاغانروغ.

في وقت لاحق قال أحد المشاركين في اختبارات DAR الطيار القطبي أناتولي ألكسيف لاحقا: «كانت ظروف الاختبار صعبة. بسبب الطقس الدافئ، كان الجليد في بحر آزوف يذوب بشكل كبير، وقد تطلب الأمر من كل فرد من أفراد الطاقم إعداد الطائرة لرحلة سيفاستوبول-ييسك في غضون ثلاث ساعات بالضبط  بعد اختبارات المصنع.

في اليوم التالي بعد الهبوط على الجليد في ييسك، غاصت الطائرة تحت الجليد، وتم سحبها بصعوبة، وبعد ذلك حلقت عشر مرات أخرى. بعد الرحلة الأخيرة، سقط مزلاج الطائرة تحت الجليد سبع مرات أخرى، ولكن بفضل الانزلاق وفقط من خلال قوة دفع محركها، خرجت الطائرة دون ضرر».

بطبيعة الحال، كانت مثل هذه الاختبارات للطائرات محفوفة بالمخاطر بالنسبة للطيارين. كانت ألكسندرا قلقة للغاية بشأن إيفان، وحاولت إقناعه بشتى الطرق، بتجنب الرحلات الجوية الخطرة، وبأن يقوم بطلب نقله إلى مكان آخر.

رفض إيفان هذه الطلبات بسخط، كيف يمكن لضابط سوفييتي أن يختبئ من المخاطر؟ على العكس من ذلك، يجب أن يتجه نحوها مباشرة مرفوع الرأس. لو كان ماتريده تخبئة زوجها من المخاطر، فلتتزوج كانت من محاسب. وعلى كل حال، لدى المحاسبين مخاطر خاصّة بهم أيضا. الشيء المهم هو أن الوطن يحتاج لهذه الطائرات، وهو ما جعل إيفان يشعر أنه يشارك في أمر مهم.

لا يمكن القول أن موت ضابط شجاع كانت غير متوقعة على الإطلاق بالنسبة لزوجته، ولكن ذلك لم يخفف من ألمها لفقدانه.

فيكتور وألكسندرا. التّعارف

 

المصائب لا تأتي فرادى. لم يكن لدى ساشا الوقت الكافي للتعافي من فقدان زوجها، وقع مصاب جديد لم يكن فقط من نصيبها، ولكن من نصيب الشعب السوفيتي بأكمله فكانت الحرب الوطنية العظمى. لم يسبق للشتاء القاسي في بداية الحرب تجاوز إقليم كراسنودار. أصيبت كاتيا بنزلة برد وبالتهاب رئوي وتوفيت بعد فترة وجيزة.

في سن الخامسة والثلاثين، أصبحت ألكسندرا وحيدة مع ذكرياتها عن سعادتها العائلية التي لم تدم طويلا ومع حاضر مليء بالتجارب.

في إحدى المرات في ميناء ييسك التقت ألكسندرا بالصدفة مع فيكتور سانكو، الذي كان يخدم على إحدى السفن الحربية. لقد فقد عائلته خلال سنوات الحرب، حيث دمر الغزاة النازيون بلدات بأكملها في بيلاروسيا،بمن فيها من سكان. في إحدى القرى التي دمرت كانت تعيش عائلة فيكتور…

لم يكن الحديث بين فيكتور وألكسندرا طويلا، لكن كان كافيا بالنسبة لهما ليعرفا أهم الأمور عن بعضهما البعض. بدا لهما أنهما كانا يعرفان بعضهما البعض منذ زمن. شخصان فقدا كل شيء أعطى لحياتهما معنى، والآن بعد أن التقيا شعرا كما لو أنهما وجدا معنى جديدا للعيش من أجله. ليس فقط من أجل البقاء على الرغم من آلام الماضي والحاضر المليء بصعوبات الحرب، ولكن للعيش بحد ذاته.

ولكن سرعان ما جاءت أوامر للسفينة التي كان يخدم عليها فيكتور بمغادرة مياه بحر آزوف والتمركز في كيرتش. عند الفراق، تبادلا العناوين ووعد كل منهما الآخر بأنهما سيلتقيان بالتأكيد.

 

الاحتلال

في هذه الأثناء، دارت الأحداث بطريقة وصل فيها العدو إلى ييسك. ولم يصل المدينة فحسب، بل استولى عليها أيضًا.

غطى شتاء عام 1914 البارد بشكل غير عادي خليج تاغانروغ بطبقة صلبة من الجليد. شكّل هذا تهديدا حقيقيا بنقل القوات النازية إلى مؤخرة الجيش 56، الذي قاتل بالقرب من مدينة روستوف على نهر الدون. بهدف تحييد هذا التهديد، قرر المجلس العسكري لكل من الجيش 56 والأسطول قطع جليد الخليج في الجرف الجليدي، بعرض حوالي ستة أمتار وطول حوالي 20 كيلومترا، من رأس فورونتسوفسكي إلى جزيرة ييسك سبيت للدفاع عن قاعدة ييسك البحرية. على طول الخط الكامل للجرف -الذي لم يسمح سكان ييسك بتجميده طوال فصل الشتاء- أقيم جدار جليدي يزيد طوله عن مترين.

لم تجرؤ القوات النازية على اقتحام هذا الحاجز، ولكن بحلول صيف عام 1942 أصبحت مدينة ييسك على خط المواجهة. بعد أن استولى النازيون على روستوف على نهر الدون، قررت القيادة السوفيتية إخلاء قاعدة ييسك البحرية.

دخل النازيون من وحدات عسكرية ألمانية ورومانية مدينة ييسك في 9 أغسطس 1942. الاحتلال صفحة مأساوية في تاريخ المدينة، فخلال ستة أشهر من احتلال النازيين والمتواطئين معهم من رجال الشرطة من بين المجرمين وغير الراضين عن السلطة السوفييتية، تم تعذيب حوالي 600 شخص.

لم يكن الضحايا من العمال الحزبيين والسوفييت فحسب، بل كان الأطفال أيضاً من بين الضحايا. 214 طفلا من دار الأيتام تم إجلاؤهم مسبقا من سيمفيروبول إلى ييسك- تم تسميمهم بالغاز ولم يكن لديهم الوقت الكافي للإخلاء قبل سقوط المدينة. لم يكن الأوروبيون العقلانيون الذين يبحثون عن مكاسب عملية بحاجة إلى الأطفال المرضى.

تم تحرير ييسك في 5 فبراير 1943 من قبل الجيش 58 لجبهة شمال القوقاز.

أتيحت لألكسندرا -التي نجت من مصاعب الاحتلال- الفرصة أخيرا لمحاولة معرفة أي شيء عن فيكتور، إذ قد منحها تفكيرها فيه القوة للعيش وسط الرعب الذي ساد المدينة الساحلية الجميلة لمدة نصف عام.

 

 

رسالة الممرّضة

 

أصيب فيكتور بجروح خطيرة، في معارك القرم. بعد إصابته، تم نقله إلى المستشفى، أجري له عملية بتر كلا الساقين، ولم يعد قادرا على القتال حتى في مؤخرة الجيش مع مثل هذه الإعاقة، ولم يكن من الممكن أن يشارك في الجبهة العاملة. وعوضا عن ذلك، كان يحتاج لمن يعتني به.

كانت الحرب تقترب من نهايتها ، فأين سيأخذه القدر الآن؟ مات أقاربه في بيلاروسيا، حتى أنه كان يخشى مجرد التفكير في ألكسندرا بعد العملية، وليس فقط إخبار أحد عنها. تم نقل فيكتور إلى دار للمعوقين في إحدى مدن روسيا الوسطى، والتي لم تكن تحت الاحتلال.

بعد الصدمة الأولى من الشعور بأنه قد فقد ساقيه، انغلق فيكتور على نفسه. في المكان الجديد، كان يرقد لأيام متتالية، دائرا وجهه إلى الحائط. يرد على جميع الأسئلة باختصار شديد.

تحدثت إليه الممرضة مارغريتا، وهي امرأة تبلغ من العمر حوالي خمسين عاما، إذ قال عنها أولئك الذين دخلوا بيت المعاناة هذا إنها تجيد العلاج بالكلام. لم يكن بوريس بوليفوي قد كتب «قصّة إنسان حقيقي» بعد. وكانت مارغريتا بيتروفنا تحكي للجنود الذين فقدوا أطرافهم عن ألكسندر بروكوفييف سيفرسكي، الذي قام بطلعات قتالية جويّة خلال الحرب العالمية الأولى بساق اصطناعية.

أضاءت شرارات في عيون بعض هؤلاء المعاقين؛ حيث بدأوا يعتقدون أنهم لم يفقدوا كل شيء، حتى لو لم يتمكنوا من العودة إلى الخدمة، فسيكونون بالتأكيد قادرين على العثور على أنفسهم في الحياة الطبيعية. كان هناك آخرون تجاهلوا كلماتها، لم تكن الممرضة تفهم ما كانوا يشعرون به. لم يكن فيكتور ينتمي إلى القسم الأول ولا الثاني.

قال ذات مرة لمارغريتا: «نحن بحاجة إلى أن نفهم لماذا نعيش».

لم يكن من المعتاد الحديث عن الرّب في الاتحاد السوفييتي، ولم تكن مارغريتا متأكدة ما إن كانت نفسها تعرف عنه أم لا، لكنها وجدت بالضبط ما تحتاجه لهذا الرجل المكسور تقريبا:

— حسنا، استوعب، أنت فيكتور، واسمك يعني المنتصر. لا يمكنك أن تخسر حياتك هكذا. مَن مِن الأقارب لديك؟

كانت على علم بأقارب فيكتور الذين قتلوا في بيلاروسيا، وكان يعلم أنها تعرف ذلك، لذلك فاجأه السؤال، وبشكل لم يتوقعه لنفسه أخبرها عن ألكسندرا.

  • هل أضعت عنوانها؟ -سألت الممرضة بتعاطف. — دعنا نبحث عنها على أي حال.

—  لا بل أتذكره عن ظهر قلب! — كان المريض ساخطا، متناسيا للحظة أنه فقد ساقيه.

— وما هو العنوان؟

قام فيكتور بإملاء العنوان تلقائيا، وبعد ذلك فقط سألها:

— لماذا تريدينه؟

— سأكتب لها رسالة.

— لا تفكري حتى في ذلك! — غضب الرجل- ألم يكن لديها ما يكفي من المآسي  في حياتها، لنزيدها مأساة جديدة!

— «ولماذا أنت متأكد من أنك مأساة؟» ربما تكون العكس تماما. وليست هي فقط من ستمنحك معنى لحياتك، ولكن أنت أيضا ستمنحها معنى لحياتها.

قال فيكتور بتعب: «لا تكتبي أي شيء». وأضاف حزينا: وحتى لو كتبت، فما الفائدة …… بعد ثلاثة أسابيع تلقت ألكسندرا رسالة من ممرضة من مدينة لا تعرفها. لم تشك حتى ولو لدقيقة واحدة ما إذا كانت ستذهب إلى فيكتور، فهي بالطبع ستذهب إليه.

 

ألكسندرا و فيكتور. انتصار الحب

جاءت ألكسندرا إلى المدينة حيث كان فيكتور في دار رعاية المعاقين. عندما قيل له إنها وصلت، ارتعش كل شيء في داخله. لكنه لم يكن يريد أن يراها، لم يكن يريدها أن ترى ما آل عليه حاله. أراد فيكتور أن يحملها بين ذراعيه، ومن يكون الآن، عاجز بلا أرجل. لم يكن يريد أن يلتقي بها بشكل قاطع، على الرغم من أن ألكسندرا، في محاولاتها لرؤيته، كانت تأتي إليه كل يوم على مدى أسبوعين. وكانت تغادر عندما تسمع أنه لا يريد رؤيتها لتعود في اليوم التالي مرة أخرى.

لم يتبق لديها ما تعيش عليه في هذه المدينة الغريبة. وفي تلك اللحظة، خطرت على بالها فكرة تتمكن بها من تأمين قوتها وضمان رؤية فيكتور والتحدث معه في نفس الوقت.

حصلت على وظيفة كمقدمة رعاية في دار رعاية المعاقين، وفي اليوم التالي دخلت جناح فيكتور.

اعتصر قلب الرجل عندما رأى المرأة التي أحبها. وحتى لا تلاحظ الدموع في عينيه، استدار إلى الحائط.

— لماذا جئت؟ سأل فيكتور بصوت منخفض.

-جئت لأجلك. دعنا نذهب إلى ييسك.

— لماذا؟ سأل بهدوء أكثر.

— لنعيش معا.

— مع معاق؟ سأل الرجل بمرارة.

— «أنت لم تصنع لنفسك هذا. نحن التقينا، وتعرفنا على بعضنا البعض. وقلنا إننا سنكون دائما بحاجة بعضنا البعض. والآن عند أول اختبار جاد، هل تعتقد أنني لست بحاجة إليك؟ وما كانت حاجة كل كلماتنا إذا؟ أيعني هذا أنه إذا كان الأمر معكوسا، لم تكن لتحتاجني؟»

ومضت شرارة أمل في عيني فيكتور، لكنه لم يقل شيئا، بل استدار بعيدا إلى الحائط.

لكن ألكسندرا لم تتراجع. واصلت العمل كمقدمة رعاية في هذه الدار، لتأتي كل يوم بعد دوامها إلى فيكتور، وتتحدث معه، وتخبره إنها بحاجة إليه.

بدأت شرارة من الأمل تتوهج في عينيه الباهتتين، لكنه سرعان ما أخمدها، متذكرا الحالة التي كان محكوما عليه عيش حياته فيها «أو الاستمرار في العيش؟». وفي يوم من الأيّام وعندما مرت ستة أشهر دون أن تغادر ألكسندرا ومع استمرارها أيضا في دعوته للذهاب معها، اُخترقت دفاعاته.

— «أحقا لن تندمي على ذلك؟»- سأل فيكتور بهدوء، ونظر باهتمام في عيني ألكسندرا.

قالت بحزم: «لا. لن أخونك».

قال الرجل بلطف قدر استطاعته: «حسنا، لا توجد خيانة هنا. أنت شابة جميلة وستجدين سعادتك».

— لقد وجدتها بالفعل.

— لماذا تحتاجين لهذا؟

— لأننى أحبك.

— وأنا لا أريد الذهاب لأنني أحبك.

— هل سنعيش هنا لبقية حياتنا؟

ابتسم فيكتور لأول مرة منذ أن فقد ساقيه، بعد ذلك ذهبا إلى ييسك وتزوجا. رزقا بولدين: أليكسي ونيكولاي، الذين أصبحا ضابطين عندما كبرا.

 

دار رعاية المعاقين

 

ذات مرة (بعد عدة سنوات من نهاية الحرب) قالت إحدى الجارات، العمة غلاشا، لفيكتور:

— لماذا تتدلى حول رقبة ألكسندرا مثل العبء؟ إنها امرأة جيدة، ستصبح من دونك أكثر صحة، وحتى أصغر سنا. وأنت ستذهب إلى دار رعاية المعاقين، ألا ترى كيف تعتني الدولة الآن بالأشخاص الذين في مثل حالتك؟. ستمضي الحياة قدما، سيكون وضعها جيد ووضعك أيضا لن يكون سيئا.

لم يكن فيكتور ليحتمل مثل هذا الكلام، لو كان رجلا من قاله له، حتى بدون أرجل، كان سيهجم على هكذا متنمر. ولكن ما الذي سيجنيه من امرأة عجوز؟ لذلك، فإن الحمل الذي لم يجد له مخرجا أثقل كاهله.

شعرت ألكسندرا على الفور أن شيئا ما قد حدث بمجرد أن رأته. أراد ألا يخبرها، لكن هل بإمكانه ذلك؟ وعندما أخبرها، وسمع كلماتها، «غلاشكا حمقاء، الجميع يعلم هذا، لكن لماذا أنت ساذج هكذا؟» — سقط حجر من على قلبه فورا.

الرعاية التي تكلمت عنها الجارة كانت من النوع الذي اختبأ منه الناس. قالوا أشياء مختلفة، حول المكان الذي اختفى إليه المعوقون بلا أرجل وبلا أذرع بسرعة من شوارع المدن السوفيتية الكبيرة، والآن يكتبون عنه بطرق مختلفة. يدعي البعض أنهم أخذوهم بعيدا عن الأنظار حتى لا يفسدو ذكرى النصر. وبأوسمتهم وميدالياتهم المثبتة على الجثث المشوهة، لا يذكّرون باستمرار بالسعر الذي دفع لأجله. وعلى العكس من ذلك، شارك ويشارك آخرون وجهة نظر غلافيرا. برأيهم، اعتنت الدولة السوفيتية بأولئك الذين لم يوفروا أنفسهم خلال سنوات الحرب. لقد وضعوا المعاقين في مكان يتم فيه الاعتناء بهم ورعايتهم، متخلصين من المشاكل اليومية والاهتمام بقوت يومهم.

إنّ الحقيقة دائما أكثر تعقيدا من أي كلمة. لم توفر الدولة للأبطال الذين فقدوا صحتهم خلال الحرب معاشا تقاعديا لائقا، بل وحتى لم توفر لهم معاشا كافيا للعيش. لذلك، كان هناك الكثير من قدامى المحاربين بلا أرجل ولا ذراعين يتسولون في القطارات والمتاجر. وفي نفس الوقت أضاءت الجوائز العسكرية على صدورهم …

تم إرسال المعوقين للعيش في مؤسسات اجتماعية مغلقة، تم وضع العديد منهم في أديرة سابقة، مثل فالام وكيريللو بيلوزيرسكي وألكسندر سفيرسكي وجوريتسكي وغيرها.

هناك منشورات تفيد بأن الأشخاص ذوي الإعاقة قد تم أخذهم بالفعل كسجناء، والتي تبدو معقولة تماما في الظروف التي لم يكن فيها حتى المزارعون الجماعيون يحملون جوازات سفر في أيديهم. وفقا لإصدار آخر، كانت المهمة الرئيسية لدور رعاية المعاقين هي إعادة تأهيلهم، والمساعدة في إتقانهم مهنة جديدة، على سبيل المثال، محاسب أو صانع أحذية. تم السماح لأولئك الذين كانوا اجتماعيين بالخروج، وساعدوهم بالاستقرار في بعض المدن، وبالعثور على عمل. كان هناك رجال ونساء من ذوي الإعاقة. حتى أن البعض في هذه الأماكن أنشأوا أسرا، وأنجبوا أطفالا. في جوريتسي، أنشأ بحار سابق بلا أرجل يتمتع بموهبة موسيقية جوقة للمعاقين.

لكن على أية حال، كان هناك عدد قليل ممن سعوا هم أنفسهم لدخول هذه الدور. ولو تم إخبار غلافيرا- التي نصحت بكل سهولة فيكتور أن يطلب الذهاب إلى هناك- أنها تستطيع الوصول إلى هناك، لكانت العمة خافت بشدة. لأنه في الظروف التي كانت فيها الحرية محدودة على أي حال، كان هناك القليل جدا من الحرية في هذه الأماكن لسكانها، وكان هناك أكثر من الفرص الكافية لسوء المعاملة من قبل المسؤولين في مساكن الضيق هذه. والأكثر من ذلك، أن فيكتور لا يريد الذهاب إلى هناك، لقد أحب ألكسندرا كثيرا، ولم يكن سيرغب أبدا لأي سبب كان في الانفصال عنها، إلا إذا أصبحت لا تحتاجه، وشعر أنه عبء عليها، كما قالت العمة غلاشا، فوقتها لن يبقى معها ولو ليوم واحد.

لكن ساشا عرفت كيف تهدئ قلبه الجريح ببضع كلمات، أو حتى بمجرد نظرة. في بعض الأحيان يتم إخراج المعوقين من الشوارع مباشرة؛ أولئك الذين لم يكن لهم أقارب، ولكن في عالمنا لا يتم استبعاد الأخطاء، فالذين يقومون بالتنفيذ في كثير من الأحيان ليسوا أذكى الناس في العالم. لذلك، في الوقت الذي لم تنته فيه الإجراءات الجماعية لإرسال المعوقين السابقين إلى دور الرعاية المنظمة لهم في الأديرة السابقة، حاول فيكتور عدم مغادرة المنزل ولو لمرة واحدة. وعلى الرغم من أنهم كانوا يعرفونه في ييسك، لكن من يدري ماذا يمكن أن يحدث؟

 

العائلة

كان صندوق مجوهرات ماترونا فارغا، لقد وضعت القليل في حفاضات حفيدها عندما غادرت ماريا إلى تشيليابينسك، وأعطت كل شيء متبقي للبارتيزان عندما كانت في الفصيل. وذهب ريع بيع المصوغات إلى علاج المقاتلين وشراء المواد الغذائية.

عندما انتهت الحرب، ذهبت ماترونا إلى ييسك، حيث تعيش ابنتها ألكسندرا، التي تزوجت مؤخرا من شخص معاق من المجموعة الأولى. انتقلت ماريا إلى هناك مع عائلتها من سمرقند. كانت ماترونا امرأة حكيمة، ولم تتدخل في الحياة الأسرية لبناتها، بل حاولت فقط مساعدتهن بقدر ما تستطيع.

عندما وصلوا من أوزبكستان، عاشت ماريا وعائلتها لفترة طويلة مع ألكسندرا، التي كانت تعيش مع فيكتور وأبنائهم في غرفتين مع مدخل منفصل في منزل جاكتوفيّ (تعاونيّ). والآن تعيش أمها وأختها وعائلتها في هاتين الغرفتين. كان الوضع مزدحما، ولكن بطريقة ما كان هناك مكان للجميع.

«جاكت» هي إحدى اختصارات الحقبة السوفيتية، وتعني شراكة تعاونية للإسكان والتأجير. عاشت 14 عائلة مختلفة في هذا المبنى. كان لكل منها مدخل خاص بها. جميع وسائل الراحة في الفناء. كان الفناء كبير وغير مريح.

كان من الصعب جدا شراء منزل في ييسك في ذلك الوقت؛ فنادرا ما كانت تباع المنازل، ولم يتم تنفيذ بناء جديد. كانت هناك أيضا صعوبات في العمل. شعر ليونيد، الذي اعتاد على العمل المسؤول، بعدم الارتياح الشديد، ثم اليأس تماما. وبدأ الشرب.

على بعد مبنيين من منزلهم كان مطعم «الجنوب»، الذي أصبح فيه البوفيه هو المكان المعتاد لليونيد. وفي مرة من المرات زحف فيكتور إليه، وانتظر خروج ليونيد. فخرج وقام ليدخن مع الرجال. اقترب منه المعاق وقال له أمام الجميع:

«إذا كنت تتصرف على هذا النحو، فلا داعي للقلق. على الرغم من أنك أطول مني بضعفين، وتقف على قدميك، ولديك ذراعان ورجلان، وأنا ليس لدي سوى ذراعين … سأطعم طفليَّ وأطفالك الخمسة، فلا داعي للقلق .. ..

وعاد أدراجه. بعد ذلك، قطع ليونيد الشّرب، لم يعد بإمكانه حتى النظر إلى الكحول بعد الآن. وبذلك تمكن فيكتور من التأثير عليه.

بعد مرور بعض الوقت، تمكن ليونيد وماريا من شراء منزل. حصل ليونيد على وظيفة في مصنع تعاوني، وجدت ماريا عملا في متجر.

لكن حتى بعد ذلك، في بعض الأحيان في أيام العطلات، اجتمع جميع الأقارب معا. عزف فيكتور الكمان والأكورديون بشكل جيد للغاية. أخذ ليونيد ابنته الصغرى تانيا من يدها، ورقصا رقصتي البولكا والكراكوفياك الدارجتين في تلك الأيام. أجاد ليونيد الرقص النقري بشكل جيد جدا، وفي وقت من الأوقات كان يؤدي رقصه في أندية مختلفة في موسكو.

أناس مختلفون جدا، بمصائر مختلفة معقدة، عاشوا معا في وئام. علمتهم الحياة أن يقدرو الخير القليل الذي لديهم.

قالت ماترونا- وهي الوحيدة من بين هؤلاء الذين كان لديها ما يمكن أن نطلق عليه على الأقل ثروة- لأبنائها وأحفادها:

— كل هذا يفنى. الثروة موجودة اليوم، لكنها لن تكون غدا. في بعض الأحيان تضطر إلى التخلي عنها بإرادتك الحرة، تأتي مثل هذه اللحظات في الحياة، لكن العلاقة بين الناس، وخاصة الأقارب، شيء يجب عليك أن تكون قادرا على تقديره.

 

الجائزة الأكبر

 

غالبا ما كانت ألكسندرا -عندما بدأت أختها وعائلتها تعيش بشكل منفصل- تقول لماريا:

— دعي تانيا تعيش معنا.

وافقت ماريا؛ فأسرتها كبيرة، وأختها ليس لديها ابنة، وسوف تهتم بابنة أختها أكثر من والدتها. عاشت الفتاة مع العمة ألكسندرا والعم فيكتور لفترة طويلة.

فتحت ألكسندرا الخزانة في إحدى المرات، وبحثت عن شيء بداخلها لفترة طويلة، ثم أخرجت علبة ما ونادت على تانيا:

— تعالي، سأريك شيئا ما.

اقتربت الفتاة. كان في العلبة وسام، وضعته العمة ألكسندرا على يدها، وبدا لتانيا أنه من بين كل الظلال الحمراء العديدة التي كانت لهذه النجمة، لون يشبه لون دم الإنسان.

عندها لم تكن تستطع صياغة الكلمات المناسبة، ولكن على مستوى المشاعر، ساد شعور بعدد الملايين من الناس الذين ماتوا في الحرب الوطنية العظمى، وكم الدم الذي أريق لأجل الوطن الأم ولأجل النصر الذي طال انتظاره.

كان فيكتور في ذلك الوقت جالسا على الأريكة. نظر بطريقة ما إلى الوسام نظرة لا مبالية وبدأ يحكي ما لم يحكه من قبل في حضور تانيا:

— لقد تم تقديمي للحصول على نجمة «البطل». ولأنها تعطي الكثير من المزايا، أعطاها الموظفون العسكريون لشخص آخر-والذي في رأيهم- بحاجة إليها أكثر …

— كيف يمكن لمثل هذا أن يحدث؟ — تفاجأت الفتاة.

ابتسم الرجل بمرارة: «يمكن أن يحدث الكثير في هذا العالم».

— هل أحسست بالإهانة؟

— على نفسي؟ بوقتها لا. الوسام يستحق أيضا. الإهانة كان على أولئك الذين فعلوا ذلك. لكن الآن تتلقى ألكسندرا خمسة روبلات فقط من الحكومة لرعاية شخص معاق …. كما يعطونني كيس من الجلد مجانا … وأقوم بصنع وسادات يدوية بنفسي …

كانت الحقائب الجلدية تعطى للأشخاص المعاقين بلا أرجل، كان لا يزال يتعين عليهم العيش حتى ذلك الوقت الذي سيتم فيه منحهم سيارات …

— لكن الدولة كافأتك، أليس كذلك؟ — سألت تانيا العم فيكتور، فاتحة عينيها الواسعتين.

— كوفئت. لكن ليس من قبل الدولة.

— من قبل من؟

— لا أعرف. الحياة، على الأرجح. لقد أعطتني أكبر مكافأة يمكن أن أحصل عليها.

— ماذا؟

— ألكسندرا- قالها والنظرة التي كانت في عينيه شائكة وضائعة منذ برهة أصبحت دافئة على الفور.

كما أصبحت نظرات ألكسندرا دافئة. قامت بالتربيت على رأس ابنة أختها وقالت:

  • الحياة قاسية في بعض الأحيان. لكنها تعطينا أيضا ذلك العطاء، الذي يستحق الصبر على كل شيء آخر.

الزوج

 

على الرغم من أن فيكتور كان بلا رجلين، لكنه لم يتساهل مع نفسه، فقد حاول أن يعيش بطريقة يُشعر ألكسندرا فيها دائما أن لديها زوجا يمكنها الاعتماد عليه والاستناد إليه في كل شيء.

كان يعمل باستمرار، لقد صنع جميع الأثاث بنفسه، وليس أي أثاث، كان نجارا ونحاتا بارعا وحاول صنع أثاث بشكل جميل، كان يرسم جيدا وكانت لوحاته معلقة على الجدران.

كان يخيط قمصانه على ماكينة خياطة يدوية، وبدلا من البنطلونات كان لديه حقائب جلدية.

يقوم بجمع صناديق الطرود البريدية ليلا، والتي كانت ألكسندرا تبيعها في السوق.

كثيرا ما كان يصطاد الأسماك، وكان ذلك يشكل عونا كبيرا.

لم يكن فيكتور يقدّر بشكل كبير حقيقة عدم رفض ألكسندرا له بعد فقدانه رجليه فحسب، وإنّما إصرارها الملح عليه، وإنجابها منه ولدين. لقد أراد حقا ألا تحتاج زوجته وأطفاله إلى أي شيء.

في الوقت نفسه، فإن الظروف المعيشية كانت صعبة للغاية. لم تكن هناك مياه جارية في الفناء، وكانت صنابير المياه على بعد مربعين سكنيين، كانوا يحضّرون العشاء في الفناء في الربيع والصيف والخريف، أما في الشتاء فكانوا يحضّرونه في الغرفة.

خرجت ألكسندرا في الصباح الباكر لبيع علب البريد، ولتدفئة الغرفة كان من الضروري إحضار الفحم من الحظيرة التي كانت موجودة في نهاية الفناء، على بعد حوالي 50 مترا.

عندما تغادر ألكسندرا كان فيكتور يأخذ دلوا فارغا، ويزحف إلى الفناء، يلقي الدلو باتجاه الحظيرة، يزحف إليه ويرميه مرة أخرى. كان من الصعب الوصول إلى الفحم، ولكن العودة مع دلو مليء بالفحم كانت أكثر صعوبة. لم يعد من الضروري رميه، بل رفعه بيد ممدودة وإعادة ترتيبه بعناية. واظب فيكتور على هذه الرحلة يوميا لإشعال الموقد حتى تكون الغرفة دافئة عند عودة ألكسندرا.

شاهدت تانيا أحيانا كيف كان فيكتور يمشي في الشارع بجوار ألكسندرا ممسكا بيدها مرتديا حقيبته الجلدية، وعلى الرغم من أنه بلا رجلين، لكن الفتاة شعرت كما لو أنه يمشي، وكانت تتمنى أن يكون لديها مثل هذا الزوج. حسنا، وماذا لو لم يكن لديه رجلين، بالمقابل إلى أي مدى يحب زوجته، وكم لديه من القوة الداخلية والإرادة وحب الحياة واللطف، ولا توجد صعوبات في الحياة يمكن أن تكسره.

 

صيد السّمك

 

في الصباح الباكر، عند بداية بزوغ الضوء، وعلى ضفة اللايمان (مصب على شكل بحيرة شاطئية) القريب نسبيا من مدينة ييسك -الواقعة بين خليج تاغانروغ على بحر آزوف ولايمان ييسك- وعلى بعد أمتار قليلة من الماء توجد سيارة صغيرة خضراء ذات مقعدين، يطلق عليها شعبيا «المخصصة للمعاقين» و «السيارة الصاخبة الحدباء». لكن مالكها، وهو رجل بلا رجلين، يجلس قرب المياه وبيده صنارة صيد من دون أي مشاعر سلبية تجاه «حصانه الحديدي». كان وجهه مليئا بتجاعيد، كل منها يذكّره بإحدى تجارب الحياة، التي لم يتمكن أي منها من كسره.

 يرتدي قميصا خاطه بنفسه، وحقيبة جلديّة تحل محل البنطال، وهي الشيء الوحيد الذي أعطته الدولة -حتى وقت قريب- لشخص معاق من المجموعة الأولى، لبطل من الحرب الوطنية العظمى. لكن فقط في العام الماضي حصل على هذه العربة، وكان سعيدا جدا بها. لقد مكنته من التحرك بشكل مستقل لمسافات طويلة، وهو ما لم يستطع فعله لسنوات عديدة.

كان يذهب للصيد مع ابنة أخت زوجته، وهي فتاة في الثانية عشرة من عمرها، يغادران حوالي الساعة الخامسة صباحا، ولا يعودان إلى المنزل حتى المساء.

— عم فيكتور، لقد علقت السمكة بالطعم – تقول الفتاة مبتهجة.

— جيّد يا تانيا.

يراقب الرجل بابتسامة لطيفة كيف تخرج الفتاة صنارة الصيد بفريسة فضية من الماء بحركاتها المعتادة. السمك هو عون كبير في حياتهم، ولذلك يذهبون للصيد كما يذهبون إلى العمل. في المساء بعد الصيد، يقومون بجمع الديدان. يحفر فيكتور الأرض، وتختار تانيا الديدان. لديه ذراعان قويتان للغاية، بفضلهما يتأقلم مع العديد من الصعوبات اليومية حتى بدون رجلين.

في إحدى المرات انقطعت الكهرباء في الغرفة التي كان يعيش فيها مع زوجته. لم تكن لديهم ثريات وقتها؛ فقد عاشوا بفقر. مجرد سلك كهربائي معلق وعليه مصباح كهربائي، انكسر شيء ما في حاملة المصباح. ذهبت ألكسندرا، زوجة فيكتور، لتجلب كهربائي.

قال لها فيكتور: «لا داعي يا ألكسندرا، سأصلحها بنفسي.» ولكن المرأة لوحت بيدها وذهبت؛ إذ كيف له أن يصل الى مثل هذا الارتفاع؟!.

كانت تانيا عندهم حينها وشهدت كيف قام فيكتور بدفع كرسي لقرب الطاولة، قفز عليه، ثم قفز منه على الطاولة، استلقى على الطاولة والتقط الكرسي من الأرض بيده ووضعه على الطّاولة، وقفز عليه. كان قد وضع جميع الأدوات اللازمة في جيوب القميص، أصلح العطل ووضع لمبة جديدة ونزل بنفس الطريقة التي صعد بها. عندما وصلت ألكسندرا والكهربائي، كانت الغرفة مضاءة مسبقا.

أحبت تانيا التحدث إلى فيكتور، فهو صارم ولكنه عادل. لم يكن يحب الحديث عن الحرب؛ فقد عانى كثيرا في سنواتها، ولكن يصعب شرح مدى صعوبة إثارة بعض الذكريات للطفل.

— عم فيكتور، أخبرني عن الحرب — تطلب تانيا.

ينظر فيكتور إليها بتوبيخ،  لكنه يتنهد، ويبدأ بالقصّ …

القصيدة

استمعت تانيا إلى فيكتور بعيون مترقبة، ثم نهضت فجأة وقالت بطريقة جدية نوعا ما:

— عم فيكتور، أريد أن ألقي عليك قصيدة.

— ما هي القصيدة؟ — تفاجأ الرجل.

كتب روديارد كيبلينغ قصيدته «الوصية» عام 1910، وترجمها إلى الروسية ميخائيل لوزينسكي عام 1936. كانت هذه هي الترجمة الأولى لهذه القصيدة إلى اللغة الروسية، ولا يزال البعض يعتقد أنها ليست أنجح الترجمات فحسب، بل أفضل من القصيدة الأصلية، لكن تانيا لم تكن ناقدة أدبية. أرادت إلقاء القصيدة، لأنه بدا لها أنها تتوافق مع مسار حياة فيكتور، الذي لم تقل له الممرضة مارغريتا عبثا إن اسمه يعني «المنتصر». لقد كلفها تعلم قصيدة طويلة عن ظهر قلب الكثير من الجهد، كان من المهم عدم الانحراف عن النّص وعدم الخلط بين الكلمات.

لذلك تجاهلت بفارغ الصبر السؤال عن نوع القصيدة وبدأت على الفور في القراءة

تمالك نفسك وسط الحشد المرتبك،

الذي يلعنك على ارتباك الجميع،

ثق بنفسك، رغما عن الكون،

ودعك من خطايا غير المؤمنين؛

دع الساعة لا تحين — انتظر لا تتعب،

دع الكاذبين يكذبون — لا تصغي لهم؛

اعرف كيف تسامح ولا تظهر نفسك متسامحا،

كن أكثر كرما وحكمة من الغير.

اعرف كيف تحلم دون أن تصبح عبداً للأحلام،

وكيف تفكر دون أن تؤله الأفكار؛

استقبل النجاح والفشل على حد سواء،

لا تنسى أن صوتيهما مضللان؛

ابق هادئا عندما تكون الكلمة لك

أقعِد المارق لتحاصر الحمقى،

عندما تنهار كل حياتك ومن جديد

عليك إعادة بناء كل شيء من البداية.

اعرف كيف تضع الأمل البهيج،

على خريطة عليها كل ما أنجزته بجهودك،

اعرف كيف تفقد كل شيء وتعود فقيرا كما كنت،

ولا تندم على ذلك ابدا،

اعرف كيف تجعل قلبك وأعصابك وجسدك،

في خدمتك عندما يكون في صدرك

كل شيء فارغ، كل شيء محترق منذ زمن

وفقط عزيمتك تقول: «انطلق!»

ابقَ بسيطا عندما تجالس الملوك،

كن صادقا عند التحدث مع العامة؛

كن صريحا وحازما مع الأعداء والأصدقاء،

دع الكل في حينه يحسب حسابك؛

املأ كل لحظة بالمعنى،

ساعات وأيام تجري بلا هوادة،

عندها ستملك العالم بأسره،

عندها يا ولدي، ستكون إنسانا!

… استمع فيكتور باهتمام للفتاة التي ارتجف صوتها وتقطع أثناء القراءة. سالت دمعة على خده، فمسحها على الفور بكمه، متظاهرا أن شيئا ما قد دخل في عينه.

— شكرا! – هذا ما قاله فقط في الإجابة.

 

 

بدلا من الخاتمة

 

تتذكر تاتيانا ليونيدوفنا بيلكينا: «قريبا سأكون في السبعين من عمري، وقد غطى الشيب رأسي. كم أعطاني الرب؟ لكن سنوات ما بعد الحرب، صعبة للغاية، أتذكرها بدفء. أتذكر جدتي، والدتي العاملة دوما، وأبي الطيب.

أتذكر أيضا فيكتور سانكو. على مر السنين، تداعى النصب التذكاري على قبره، لكن «الفتاة ذات العيون الكبيرة»، كما كان يدعوني، قد أصلحت كل شيء، قمت بتغيير كل من النصب والسياج، ولكن الذاكرة الرئيسية موجودة في قلبي.

قلب الفتاة ذات العيون الكبيرة والشعر الأشيب يأن، والذكرى لا تموت … «

Loading

Добавить комментарий

Ваш адрес email не будет опубликован. Обязательные поля помечены *

Этот сайт защищен reCAPTCHA и применяются Политика конфиденциальности и Условия обслуживания применять.